رزيقة عدناني ـ متى نقول على الفكر أنه إسلاميًا؟
الفكر الإسلامي: متى نطلق على الفكر أنه إسلاميًا؟
التفكير نشاط تقوم به النفس، وإن كان ليس النشاط الوحيد لها؛ لذلك فإنَّ ما يُميز التفكير عن غيره من النشاطات التي تقوم بها النفس، هي تلك الأفكار التي تتولد من عملية التفكير. وتحدث عملية التفكير عند وجود موضوع يُثيرها، لا بد أن يظهر على شكل مشكلة أو عقدة، ولا بد أن يشعر الشخص بتلك المشكلة، ولكن الشعور بالمشكلة لا يكفي؛ إذ لا بد أن يصحبه شعور برغبة في إيجاد حل لها؛ فالرغبة في الوصول إلى الحل هي التي تدفع النفس للبحث من أجل التخلص من المشكلة، وتخلق معاناة فكرية لا تنتهي إلا بالوصول إلى الحل. وبناءً عليه فعلينا أن ندرك أن هناك مشكلة في الفكر الإسلامي المعاصر، ويجب أن تكون لدينا الرغبة الكافية لحلّها.
يمكن أن نُعرِّف الفكر الإسلامي بكونه كل النشاط الفكري وإنتاجه حين يُتخذ الإسلام موضوعًا للدراسة والبحث، أي يتم التفكير فيه. ويعتبر الفكر الإسلامي من ضمن الإنتاج المعنوي غير المادي الذي أنتجه المسلمون. كما يُطلعنا الفكر الإسلامي أيضًا على طبيعة التفكير عند المسلمين حين يتناولون الإسلام موضوعًا للبحث والتفكير.
ويمثل الاجتهاد أهم المشاكل الفكرية والتشريعية التي أثارها عدم اتفاق المسلمين واختلافهم حول ضرورة ممارسته وحول المشروعية الدينية للأحكام التي تنتج عنه. لقد أنكر الإمام (مالك) كل عمل تشريعي ناتج عن اجتهاد الإنسان -ماعدا الرسول -بما في ذلك الإجماع. ومن العلماء من كانوا يرون أن اجتهاد الأئمة (الإجماع) مشروع دينيًا وعملوا به على خلاف (مالك). وكانت حجة كل من يعارض الاجتهاد في مسألةٍ ما أنَّ الأحكام الإلهية لا تُعوض ولا تُستبدل بالأحكام البشرية، وأنَّ أي تغيير في الأحكام التي أتى بها الوحي معناه اتخاذ الفكر البشري مصدرًا للمعرفة التشريعية والدينية بدل الوحي. وبالتالي، تبقى مشكلة الاجتهاد مشكلة بين مصدرين للمعرفة التشريعية هما الوحي والفكر.
مشاكل الفكر الإسلامي: الاختلاف على الإلهي والبشري
تعتبر إحدى أكبر مشاكل الفكر الإسلامي الكبرى مشكلة تفسير القرآن التي تعود جذورها إلى شعور المسلمين بالحاجة إلى تفسير آيات القرآن، ويرجع سبب ذلك إلى أنَّ الرسول لم يُفسر كل آيات القرآن الكريم؛ لذلك لم يعرف المسلمون مشكلة تفسير القرآن أو عدم تفسيره، بل ما حدث هو إجماع على ضرورة التفسير < رغم امتناع بعض الصحابة عن ممارسته…لكن الحاجة إلى التفسير حسمت الأمر لصالح التفسير .
وقد اختلف المسلمون في مسألة المنهجية أو الطريقة التي يتم بها هذا التفسير. واختلفت الطرق فمنها التفسير الظاهري حيثُ يرى البعض أن التفسير الظاهري يمثل الطريقة المثلى لتفسير القرآن، وهذه الطريقة تأخذ بالمعاني السطحية الظاهرة للكلمات ولا تتعداها؛ حيثُ تُنقل المعاني القرآنية من النصوص القرآنية إلى كتب التفسير دون أن يُضاف أو يُنقص منها شيئًا. والغاية من التفسير الظاهري الوقوف في وجه الفكر البشري باعتباره لا يمكن أن يكون مصدرًا للمعرفة الدينية والتشريعية، التي مصدرها الوحيد هو الوحي، والطريقة الأخرى هي “التفسير الباطني”، وفي هذه الطريقة يغوص المُفسر في المعاني العميقة للنصوص ويعوضها بمعانٍ أخرى يتصورها فكره البشري. ويرى البعض أنَّ أي معنى مصدره الفكر البشري هو ابتعاد عن تعاليم الدين وأوامر الخالق، بينما يرى آخرون أنَّ الغوص في المعاني العميقة التي توجد في باطن الكلمات هي الطريقة المثلى لفهم معاني القرآن. ويريد أصحاب التفسير “الباطني” أن يكون للفكر البشري دورًا أكبر في عملية البحث عن معاني النصوص وتفسيرها.
ومن أكبر المشاكل التي اشتد حولها الخلاف وكثرت فيها النزاعات بين المسلمين ما يتعلق بطبيعة القرآن. لقد تساءل المسلمون هل القرآن حديث أم قديم؟ مخلوق أم غير مخلوق؟ وانقسموا إلى فريقين: فريق يقول أنَّ القرآن قديم وليس مخلوقًا، لأنه صفة من صفات الله، وبالتالي فقد وُجد مع وجود الله، ولا يتأثر بتغير الزمان والمكان. وفريق آخر يرى أنَّ القرآن مخلوق، أي أنه لم يوجد مع وجود الله وإنما وُجد الله ثم أوجد القرآن. ويعارض أصحاب هذا الفريق فكرة أن القرآن وجد مع الله، لأن ذلك معناه أنَّ الله ليس هو الذي خلقه والله خالق كل شيء؛ فالقرآن في نظرهم مثل باقي الموجودات أوجده الله بعد أن أوجد الزمان والإنسان، وبالتالي تتأثر أحكامه بالزمان والمكان.
وبعد حوالي ستة قرون من المجادلات والنقاش، انتهى الصراع بانتصار المذهب الذي ينكر أن يكون الفكر مصدرًا للمعرفة. وحسم الجدال والنقاش لصالحه، وأغلق باب الاجتهاد الفكري، ما عدا التفسير الذي استمر، وإن كان في الغالب تفسيرًا بالمأثور.
ومع ذلك، فإنَّ الفكرة لا تدخل فكر الإنسان وتخرج منه كما دخلته بالضبط، وإنما تخرج منه محملة بتوجيهات الحياة النفسية والاجتماعية. وهي عوامل تصبغ الفهم والتفسير بنوع من الذاتية التي تنفي فكرة أنَّ الفكر بإمكانه نقل المعاني نقلًا أمينًا من نصوص القرآن. ويختلف تفسير نفس الموضوع باختلاف الشخص الذي يُفسر وفق ما لديه من معلومات وما يملكه من قدرات على الفهم، إلى جانب الآثار التي تتركها أحواله النفسية والاجتماعية؛ لذلك لا يمكن أن نقول أنَّ هناك معرفة بشرية مصدرها الوحي وأخرى مصدرها الفكر البشري، لأنَّ المسلمين لم يستغنوا عن فكرهم البشري مهما اعتمدوا على النصوص المقدسة، ولم يستغنوا عن النصوص المقدسة مهما استعانوا بفكرهم لمعرفتها.
مقطع من كتاب رزيقة عدناني : تعطيل العقل في الفكر الإسلامي، هل يخدم الإسلام أم يضر به