تفسير القرآن بين النص و الفكر البشري
أما بالنسبة لتقسيم الآيات القرآنية إلى محكمات ومتشابهات بحيث نضع آيات في زمرة المحكمات ونضع أخرى في زمرة المتشابهات، فهو أولا ليس شيئا خاصا بالمذهب الظاهري، وإنما يتفق عليه تقريبا كل المفكرين المسلمين ورجال الدين. والدليل على ذلك أن الذين قاموا بهذا التمييز بين الآيات، حسب نصر حامد أبوزيد، هم المعتزلة وهم من خصوم الظاهرية. ثانيا فإن هذا التقسيم والتمييز ليس واردين في القرآن. أي أن القرآن لم يقل للمسلمين هذه هي الآيات المحكمات، وتلك هي الآيات المتشابهات، وإنما اكتفى بالقول أن هناك آيات محكمات وأخرى متشابهات. فعلى أي أساس تم هذا التمييز إذن؟ يتفق أغلبية العلماء أن هذا التمييز تم على أساس الوضوح الذي فسروا به لفظ المحكم. أي أن الآيات التي يبدو على ألفاظها الغموض فهي متشابهة. لكن الوضوح مبدأ ذاتي، لأن الإنسان بطبيعته يرى واضحا ما يتفق مع أرائه وأذواقه وقيمة وأحواله النفسية ومعارفه السابقة. وما لا يتفق معها أو يعارضها يراه غير واضح أي متشابه.
هل المذهب الذي يرفض الفكر استغنى عن الفكر فعلا؟
لقد رأينا أن المسلمين إذا كانوا قد اختلفوا في مسألة منهجية التفسير، فهم لم يختلفوا في مسألة ممارسة التفسير، بل اتفقوا على ضرورته وفائدته للدين وللمسلمين، سواء كانوا من المذهب الذي يريد أن يكون للفكر دورا في المعرفة التشريعية، أو من المذهب الذي ينكر أن يكون له أي دور أو دخل فيها. ولكن إذا كان التفسير في حد ذاته عمل الفكر ونشاطه، لأنه يعني «البينان والكشف»، وإذا كان الذي يبين ويكشف هو الفكر، كيف يمكن لأصحاب الفريق الذي يرفض أن يكون للفكر دورا في المعرفة أن يمارسوا التفسير دون أن يكون لفكرهم دورا فيه؟ وبتعبير آخر كيف يمكن أن يمارس الفكر التفسير دون أن يمارس عمله التفكيري ؟ فكان الحل الذي توصلوا إليه هو التفسير الظاهري الذي يلخص عمل الفكر إلى ناقل للمعاني من نصوصها الأصلية إلى نصوص التفسير، كما هي بالضبط بدون زيادة أو نقصان. وهي الطريقة الصحيحة والحسنة والمثلى للتفسير عندهم، لأنها الطريقة التي يتم بها نقل المعنى بكل أمانة وصدق، بحيث يكون المفسر واثقا ثقة كبيرة في المعنى الذي ينقله. وهو ما جعل الماتريدي يقول عن التفسير الظاهري أنه: «القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عني باللفظ هذا فإن قام دليل مقطوع به فهو صحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه».
لكن ما هي درجة هذه الأمانة وهذا الصدق؟ هل هي الأمانة والصدق التي تجعل المعنى المفسر صورة صادقة للمعنى الأصلي وكأنه هو عينه؟ في هذه الحالة لا بد أن يكون الفكر مثل آلة التصوير بل آلة التصوير، حتى يستطيع أن يصور المعاني المذكورة في النصوص المقدسة لينقلها إلى كتب التفسير مثلما هي بالضبط. لكن الفكر ليس آلة تصوير، ولا مرآة تنعكس عليها المعاني القرآنية انعكاسا. إنه فاعلية حيوية مركبة من فعاليات ذهنية كثيرة كالذاكرة والتخيل والإدراك. فأمام نفس الموضوع يتعدد الفهم ويختلف التفسير. لأن الإنسان يفسر المعاني حسب ما لديه من معلومات سابقة عن الموضوع وحسب ما يملكه من قدرات على الفهم والتصور وقوة الذكاء وحيوية الذاكرة، إلى جانب الأثر التي تتركها أحواله النفسية والاجتماعية على عملية التفسير والفهم لديه.
حقوق المؤلف محفوظة. أي نشر يستوجب ذكر الكاتب و الموقع.
لا يفسر الشخص الذي تعود مثلا على نظام اجتماعي يقوم على سيادة الرجل على المرأة، الآيات التي تتعلق بالوضعية الاجتماعية للمرأة والرجل بنفس الطريقة التي يفسرها بها الذي يؤمن بمساواة الاجتماعية بين الجنسين. مثلما لم يفسر المفسرون القدماء الآيات المتعلقة بالعبودية التي تقرها قيمهم الأخلاقية والاجتماعية وبالتالي لا تشمئز نفسهم منها، مثلما يفسرها العلماء اليوم بعد أن آمن الإنسان أن العبودية جريمة اجتماعية وأخلاقية وإنسانية فرفضوها نفسيا وفكريا. إن التفسير يحدث ضمن الحصيلة الثقافية الاجتماعية الخاصة للشخص وكذلك الحصيلة المعرفية أو ما يسميه العلماء بأدوات التفسير التي يشترطونها على المفسر كالمعرفة العميقة باللغة العربية لكي يتمكن من معرفة دلالات الألفاظ ومعاني الجمل والمعرفة بمختلف العلوم الدينية وبتاريخ الإسلام والمسلمين إلى غير ذلك. وكلها شروط تبين وتؤكد على دور الذات في عملية التفسير. إذ لو كان التفسير نقلا موضوعيا آليا لما كان لهذه الشروط أي معنى. كذلك لو كان الفكر ينقل المعاني جاهزة دون أي تدخل أو عمل له في ذلك، لكان الناس مفسرين يفهمون المعاني دون عناء أو تعب. لأنه يكفي أن يقرأ الإنسان الآية حتى ينطبع معناها في فكره، وينعكس على ذهنيته ويكون التفسير بذلك واحدا عند كل المفسرين وهو ما ليس كذلك نظرا لما نراه من اختلاف بين المفسرين. يقول القرضاوي: «والمفسرون للقرآن يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا بعيدا، في مدى ما يفتح عليهم في فهمه. ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدناهم جد متفاوتين».
هذا كل دليل على أن الفكرة لا تدخل فكر الإنسان وتخرج منه هي هي مثلما دخلته بالضبط، وإنما تخرج محملة دائما بكل هذه الفعاليات الذهنية وتوجيهات الحياة النفسية والاجتماعية. وهي عوامل تصبغ الفهم والتفسير بنوع من الذاتية تنفي فكرة أن الفكر بإمكانه نقل المعاني نقلا أمينا من نصوص القرآن وكأنه يقوم بتصويرها. ومن أراد إنكار ذلك ينكر طبيعة الإنسان وطبيعة فكره وطبيعة المعاني القرآنية التي تتصل وترتبط بالإنسان وضميره وشعوره وحياته. ونقدم كمثال على ذلك، تفسير العلماء للآية 37 من سورة البقرة: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عنه إنه التواب الرحيم.”
من قراءتنا لهذه الآية نفهم أنها تتعلق بالعفو الذي حضي به آدم بعد المعصية التي وقع فيها هو وحواء. ولكن الملاحظ أن حواء ليست مذكورة في هذه الآية. وأي إنسان يقرأ هذه الآية سيتساءل: لماذا حواء لم تذكر في هذه الآية. لكن البحث في كتب التفسير يكشف لنا أن أغلبية المفسرين لم يهتموا بهذا السؤال، وإنما اهتموا بالكيفية التي صاغ بها آدام طلبه للمغفرة. لا شك أن للحاجة النفسية والثقافية التي كان عليها هؤلاء المفسرين دورا كبيرا في ذلك. لأن الشخص الذي يعيش في وسط جو ثقافي تغيب فيه المرأة عن الساحة الاجتماعية، غيابها في هذه الآية لن يجلب انتباهه. ولهذا السبب غاب هذا السؤال عند أغلبية المفسرين، ما عدا البعض منهم كالطبري والقرطبي والألوسي.
رزيقة عدناني، مقطع من كتاب تعطيل العقل في الفكر الإسلامي