رزيقة عدناني: إنكار التعارض بين القيم الإسلامية والقيم الإنسانية الحديثة هو إنكار لمبدأ انتماء الإسلام إلى التاريخ
حوار عدناني رزيقة مع موقع مؤمنون بلا حدود أجرى الحواد صابر السريسي
رزيقة عدناني مختصّة في الفلسفة وباحثة في الفكر الإسلامي وعضو في المجلس التوجيهي لمؤسسة إسلام فرنسا. أصدرت عدة مؤلفات باللغتين العربية والفرنسية من بينها “تعطيل العقل في الفكر الإسلامي” و“المصالحة الضرورية” وآخر إصداراتها بدار النشر Upblisher “الإسلام: أين المشكلة؟ تحديات الإصلاح”. رزيقة عدناني هي أيضا صاحبة عدة مقالات صحفية باللغتين العربية والفرنسية، وهي المؤسسة والرئيسة للأيام الدولية للفلسفة بالجزائر.
صابر سويسي: صدر لك مؤخرا كتاب يحمل عنوان: “الإسلام: أين المشكلة؟ تحديات الإصلاح” حاولت فيه تشخيص إشكالات الفكر الإسلامي وطبيعتها وعوائق الإصلاح؛ ما الغاية من مثل هذا التشخيص وما أهمّ عوائق الإصلاح في نظرك؟.
رزيقة عدناني: إنّ البحث الذي قمت به أوصلني إلى نتيجة أنّ الفكر الإسلامي إذا كان غنيا بمواضيعه ومشاكله المطروحة، فهو في الحقيقة يقوم على مشكلة أساسية ورئيسة هي مشكلة الفكر ومشروعية استعماله وسيلةً للمعرفة في ميدان التفسير والتشريع في مقابل الوحي. هذه الإشكالية الإبستمولوجية المعروفة لا تتعلق فقط بمشكلة التفسير كما يعتقد، بل لها تأثير في كل المشاكل الأخرى؛ فهي إما أنّها تعود إليها أو نتجت عنها. المشكلة الأساسية الثانية هي تلك التي تتعلق بمعنى الإسلام وتصوّره كدين: هل هو إيمان وحياة روحية فقط، أم هو إيمان وحياة روحية وكذلك تطبيق وسلوك فردي واجتماعي؟ هذه المشكلة الثانية أساسية أيضا، لما لها من تأثير على سلوك المسلمين ومسار الإسلام كله.
الإشكالية الأولى انتهت بهزيمة الفكر، والتي حدثت مرتين في تاريخ الفكر الإسلامي؛ الأولى في نهاية القرن الثاني عشر، والثانية في نهاية القرن العشرين، تكمن وراء كل المشاكل التي يواجهها الإسلام والمسلمون اليوم، ليس فقط في ميدان الدين والمجتمع والسياسة، وإنّما في كل الميادين وخاصة في الميدان الإنساني. هذه الهزيمة تتعلق بالفكر العقلاني الخلاق طبعا، لأنّ الفكر السلفي الظاهري العاطفي، الذي يكتفي بالمعاني السطحية وبتكرار ما قيل في الماضي لم ينهزم، بل بالعكس انتصر وفرض نفسه: انتصاره هو الدليل على هزيمة الفكر المبدع والعقلاني؛ موقف المسلمين من الفكر والعقل له تأثير كبير في فهمهم للنصوص وعلاقتهم بها.
هزيمة الفكر العقلاني الخلاق تمثل أول عوائق الإصلاح اليوم؛ تطرقت إلى مشروع الإصلاح في الفصل الثالث من الكتاب الذي بينت فيه أنّه لا يمكن تحقيق أي مشروع إصلاح حقيقي قادر على إحداث التغيير الجذري على المستوى الديني والاجتماعي والإنساني، إذا لم يبدأ بإصلاح صورة الفكر والعقل في تصور المسلمين، إذا لم تكن هناك ثورة تعيد للفكر وللعقل صورتهما النبيلة.
صابر سويسي: لكن فكرة وجوب الإصلاح ليست جديدة… هنالك تجارب عديدة ومتنوّعة، ولكن يبدو أنّ فهمها للإصلاح لم يكن موحّدًا؛ ما رأيك؟.
رزيقة عدناني: أولا، لا بد من التأكيد أنّه ليس كل من يتحدث عن الإصلاح مصلحا، أو إن شئت ليس مصلحا بالمعنى الذي أطرحه في الكتاب. الأغلبية الكبرى من المصلحين ينظرون إلى الإصلاح بمعنى تصحيح ما أُفسد من الدين من أجل العودة به إلى ما كان عليه في البداية؛ أي عند السلف. هذا التصور السلفي للإصلاح، الذي يدير وجهه إلى الماضي، لا يستطيع أن يقدم للمسلمين ما يمكنّهم من التكيّف مع العصر الذي ينتمون إليه ومواجهته، ولا يساعدهم على التخلص من التمزّق بين الماضي والحاضر الذي يشعرون به: الماضي الذي يعتقدون أنّه من واجبهم الانتماء إليه والحاضر الذي لا يستطيعون الإفلات منه، لأنّهم ينتمون إليه.
هناك من المصلحين من يمجدون التغيير، ويقولون بضرورة التخلص من الأبائية، ولكنهم يؤكدون دائما الحدود التي يتوقف عندها العمل الفكري؛ أي الاجتهاد والمناطق التي لا تخضع للإصلاح. هذه الحدود التي يرسمونها للاجتهاد وبالتالي للإصلاح تدل على عدم قدرتهم على التحرر من قبضة الماضي. وفي الحقيقة، هذه المناطق التي تُمنع عن الفكر والعقل هي التي تحتاج إلى التغيير. وبالتالي، فاستثناؤها يبطل عملية الإصلاح.
هناك مصلحون آخرون ينظرون فعلا إلى المستقبل مقتنعين بضرورة اكتساب القيم الجديدة كالعلمانية والمساواة بين كل المواطنين، وبين المرأة والرجل مثلا، ولكنهم يبحثون في الماضي عما يضفي على كلامهم المشروعية اللازمة. كأنّ الأمر لا يقبل ولا يكون صحيحا، إلا إذا كان معروفا عند السلف. هؤلاء المجددون الذين أطلق عليهم في الكتاب مصطلح “الحداثيون السلفيون”. مشكلتهم أنّهم هم أيضا، لم يتخلصوا من النظرية السلفية التي تمجد الماضي، وتجعله معيارا للحقيقة والصدق، وكأنّ ما من شيء أو فكرة تكون مشروعة إلا إذا عمل بها السلف.
إنّ الإصلاح الذي أدعو إليه يتوجه إلى المستقبل. ليس مستقبل المسلمين فقط، وإنّما مستقبل الإنسانية جمعاء. لابد من إيجاد حلول لمواجهة هذا المستقبل، والتكيف معه والعمل على أن يكون مستقبل السلام والتعايش السلمي. هذا الإصلاح الذي تفرضه على المسلمين مسؤوليتهم أمام أنفسهم، أمام دينهم وأمام الإنسانية جمعاء.
إنّ السلطة النفسية والإبستمولوجية التي يمارسها السلف على المسلمين، هي التي تجعلهم عاجزين عن القيام بالإصلاح الذي يحتاجه دينهم ويحتاجون هم إليه. لذلك، فالشرط الأول لكي يتم هذا الإصلاح الضروري الحقيقي الذي ينظر إلى المستقبل هو التحرر من قبضة الماضي وقراءة السلف ومناهجه التي وضعت في مرحلة من التاريخ لا تعرف رهانات اليوم.
صابر سويسي: تقولين إنّ المحاولات المتتالية للإصلاح منذ النهضة العربية الحديثة قد فشلت؛ ما نسبة هذا الفشل؟ وما أسبابه في نظرك؟ وكيف يمكن تجاوزه؟.
رزيقة عدناني: تعود جذور الإصلاح في العالم الإسلامي إلى القرن التاسع عشر، لكنه فشل في إحداث التغيير الاجتماعي والفكري الذي أراده بعض السياسيين والمثقفين في ذلك الوقت. الدليل أنّ المجتمعات الإسلامية اليوم تتميز بالعودة المذهلة إلى العادات والتقاليد وقراءات القدامى للنصوص وفهمهم وتصورهم للدين. كون مسألة الإصلاح مطروحة اليوم أكثر من أي وقت مضى يدل على فشل المحاولات الأولى والمتتالية. فشل هذا الإصلاح يرجع أساسا، مثلما قلنا إلى عدم قدرة الذين حملوه على التخلص من الذهنية السلفية. لذلك، فهو كان منصبا في الغالب على الميدان الاجتماعي من أجل إصلاح العادات والتقاليد دون أن يتناول المسائل الحقيقية للدين. إذا تعلق الأمر بالدين لا يتعدى ذلك ميدان المسائل الثانوية (الفقهية) دون المساس بالمسائل الأساسية (الشريعية)؛ أي يتعلق بكيفية تطبيق القوانين الشرعية دون أن يصل الأمر إلى حد نقد تلك القوانين الشرعية نفسها أو إعادة النظر فيها. ونعلم أنّه لا يمكن أن يحدث أي تغيير اجتماعي دون تغيير في الميدان الديني. لا يمكن أي يتم أي تغيير في ميداني الاجتماعي والديني دون أن يعاد للفكر قيمته، ويتخلص المسلمون من الفوبيا نحو الفكر والعقل، لا بد من تغيير في الميدان الفكري.
صابر سويسي: ما الذي يمنع المسلمين من إعادة النظر في قوانين الشريعة؟.
رزيقة عدناني: إنّ الحاجز الذي يمنع المسلمين من تناول أمور الدين والشريعة بالبحث والتفكير هي الذهنية السلفية الراسخة التي تقوم على مبدأ أنّ السلف هو فقط من فهم الدين فهما صحيحا وطبق تعاليمه تطبيقا وفيا. وبالتالي، فأي خروج عن فهم السلف وأي تغيير في تنظيمهم الاجتماعي يعتبرونه خروجا عن الدين. لهذا، نجد حتى من نعتبرهم مجددين ويدافعون عن القيم الحديثة، كالديمقراطية مثلا أو العلمانية تجدهم يبحثون في كتب السلف وتنظيمهم الاجتماعي عما يدل عن مشروعية خطابهم.
بسلوكهم هذا يوطدون، (أي هؤلاء “الحداثيون السلفيون”) الذهنية السلفية ويضعفون خطابهم أمام خصومهم لسبب بسيط أنّ تلك القيم الحديثة التي يدعون إليها لم يكن السلف يعرفها وبالتالي مهما كانت حججهم، المستمدة من الماضي، للدفاع عنها فهي لا تصمد أمام المحافظين. تستمد السلفية قوتها من النظرة السلبية للفكر وللعقل التي ارتبطت بهما منذ الحكم القاسي الذي وقع عليهما في حوالي نهاية القرن الثاني عشر. إنّ سيادة الإبستمولوجية السلفية والخوف من العقلانية والحرية الفكرية هي سبب فشل المسلمين في تقديم قراءة جديدة للنصوص أو تصور جديد للعلاقة التي تربطهم بها. لا يمكن طبعا أن ننكر أنّ هناك من ناضلوا من أجل إصلاح كوبرنيكي، ولكن الطابع المحافظ لمجتمعاتهم جعل صوتهم محتشما جدا على المستوى العددي والخطابي. الكثير منهم كانوا يفتقدون إلى الجرأة للتعبير عن أفكارهم ما عدا القلة القليلة كأمين الخولي وخلف الله وطه حسين. وإن كانوا هم أيضا فضلوا السكوت في النهاية. إنّ التطور والتغيير، في أيّ ميدان كان، يحتاج إلى إرادة كبيرة تواجه التحجر وتصمد أمامه.
صابر سويسي: هناك من يرفض فكرة الإصلاح على أساس أنّ أحكام النصوص واضحة ولا داعي إلى إعادة تأويلها.. ما رأيك؟.
رزيقة عدناني: أصحاب هذه الأطروحة هم المحافظون الذين يرفضون أي تغيير في قراءة النصوص وتفسيرها. يعتمدون في ذلك على النظرية الظاهرية التي تقوم على فكرة أنّ المعنى ظاهر على ألفاظ الكلمات ظهورا واضحا، وبالتالي فالمفسر يكتفي بأخذ المعنى مثلما يظهر له ولا يتدخل بفكره أو بذاتيته في بنائه، بل المعنى هو الذي يفرض نفسه على المفسر؛ وذلك هو معنى التفسير عند الظاهريين. هذه الطريقة حسب أصحابها تمكّن المفسر من نقل المعنى بكل أمانة وصدق والحفاظ على نقائه، وهي بذلك الطريقة التي تمكّن من إدراك المعاني الحقيقية للنصوص ومعرفتها معرفته كاملة صحيحة فتحقق بذلك المعادلة التامة بين التفسير والنص الأصلي. إيمان الظاهريين بهذه الأهداف التي سطروها لطريقتهم هي التي تجعلهم يعتبرون أيّة إعادة للتفسير غير ضرورية؛ فجلال الدين السيوطي مثلا كان يرفض إخضاع ما معناه قد ظهر ووضح للاجتهاد. بالنسبة إلى الظاهريين أيّة محاولة لإعادة تفسير للمعاني الواضحة ستؤدي إلى الابتعاد عن المعنى الصحيح للنص حتما.
لكن الظاهرية وقعت في أخطاء كثيرة، وإن كانت أهدافها جذابة فهي ليست واقعية. إنّ العلاقة بين النص والقارئ تبين أنّ المفسر لا يمكنه أن يكتفي بأخذ المعني من النص أخذا، لأنّ الفكر ليس آلة تقوم بتصوير المعاني الواردة في النصوص تصويرا ولا ينقل المفسر المعنى من النصوص الأصلية إلى كتب التفسير كما هي بالضبط. إذا كان التفسير غير مستقل عن النص، وإلا لا يكون تفسيرا، فهو ليس مستقلا عن ذاتية المفسر الذي يقرأ النص حسب أدواته المعرفية؛ أمام الموضوع نفسه يتعدد الفهم ويختلف التفسير.
هذا ما يجعل المعادلة التامة بين التفسير والنص الأصلي التي يقول بها الظاهريون غير ممكنة إبستمولوجيا، ولا يقول بها إلا من بنفسه غرور، غرور بلوغ المعرفة المطلقة. وليست صحيحة عقائديا، لأنّ الإنسان لا يشارك الله في علمه. أما عن الوضوح، فهو معيار نسبي وذاتي؛ فما يتناسب مع أفكارنا يبدو لنا واضحا وما لا يتناسب يبدو لنا غير واضح، مع العلم أنّ المعاني التي يعتبرها أغلب المسلمين واضحة هي المتعلقة بالأسرة والحدود والميراث، وهي من أكثر الآيات حاجة إلى إعادة تفسير اليوم مع التغيّر الذي تعرفه المجتمعات الإسلامية وظروف الإنسانية في زمان تغيرت فيه الرهانات.
صابر سويسي: ما هي العوائق التي تقف أمام تكيّف المسلمين وتناغمهم مع روح العصر؟.
رزيقة عدناني: مشكلة تكيف المسلمين مع القيم العصرية طرحت منذ اتصال المسلمين بالحضارة الغربية في نهاية القرن التاسع عشر. طرحها المفكرون الذين أرادوا الخروج بمجتمعاتهم من التخلف والدخول بها عصر الحداثة، غير أنّ السؤال الذي شغل المسلمين أذنك كان ينطوي على إمكانية الاختيار: هل يجب أن يتكيفوا مع الحداثة أم ينعزلوا من أجل الحفاظ على أصالتهم ونظام مجتمعاتهم؟ المناقشات الحادة بين دعاة الحداثة والمحافظين قد انتهت بانتصار المحافظين. اليوم عادت هذه المسألة إلى الواجهة؛ أي مسألة التكيف مع القيم العصرية بعد أن اعتقد المسلمون أنّهم انتهوا منها، بشكل أكثر حدة بعد أن تزايد عدد المسلمين الذين يعيشون في الغرب، دون أن يعني هذا أنّ الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية ليسوا معنيين بهذا الأمر. كل هذه الظروف لم تعد تترك للمسلمين أية إمكانية للاختيار على غرار ما اعتقدوه في القرن التاسع عشر والعشرين.
ما يعرقل تحقيق هذا التكيف هو موقف المسلمين من السؤالين اللذين قلت في البداية، إنّهما السؤالان الأساسيان اللذان يقوم عليهما الفكر الإسلامي. يتعلق الأول بتصور المسلمين للإسلام، ويتعلق الثاني بموقفهم الرافض للفكر مصدرا للمعرفة وللعقل منهجا لهذا الفكر. لقد أراد المسلمون أن يكون الإسلام دينا لا يتحقق بدون جانبه الاجتماعي والتشريعي من جهة، ومن جهة أخرى أحاطوه بالنظريات الكلامية التي أوقفت عملية البحث والتفكير في ميداني التفسير والتشريع. أولها تلك التي تقول إنّ القرآن غير مخلوق التي تجعل أحكامه خارج التاريخ، غايتها أن تجعل تلك الأحكام تفلت من الصيرورة الزمانية ومن التغير المكاني. ثانيا النظرية التي تقول إنّ الحقيقة توجد في كتب السلف فقط. وثالثا النظرية الظاهرية التي تعتبر التفسير الظاهري صادقا صدقا مطلقا. هذه النظريات وضعت كأساس ثيولوجي وإبستمولوجي لرفض أي تغيير في القوانين التشريعية، وبالتالي أي تغيير في الإسلام وفي تنظيم المجتمعات الإسلامية. لذلك، فهذه النظريات تمثل السبب الأول للمشاكل التي تعرقل عملية الإصلاح وتكيف المسلمين مع العصر. هذا لا يعني طبعا أنّني من الذين يرفضون دور النص في التفسير، بل بالعكس فأنا أقول إنّ التفسير عمل فكري يتم فيه تفاعل العنصرين: المفسّر والنصّ.
صابر سويسي: كيف نفهم دعوة أولئك الذين ينادون بفقه للأقليات التي تعيش في الغرب؟ وما أثر ذلك في فكرة الإصلاح؟ وفي أيّ سياق يمكن تنزيلها؟
رزيقة عدناني: “فقه للأقليات” فكرة يقول بها رجال الدين، وهم محافظون بطبيعتهم. المشكلة أنّها تعني أولا أنّ الإصلاح أمر لا يخص سوى المسلمين الذين يعيشون في الغرب؛ أي الذين وجدوا أنفسهم في وضعية الأقلية. ويكون الإصلاح في هذه الحالة حالة استثنائية لفئة معينة. وهذا غير صحيح، لأنّ الحاجة إلى الإصلاح اليوم تخص كل المسلمين حيثما كانوا. المسلمون الذي يعيشون في العالم الإسلامي هم أيضا يوجدون داخل التاريخ ويتأثرون بتحولاته مثلهم مثل بقية شعوب العالم؛ هذا العالم الذي تغير بشكل كبير. لا يعني هذا أنّني أوافق على كل ما يحدث في العالم اليوم من تحولات، ولكن هناك قيم عصرية كالعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية وهي مهمة جدا، خاصة والإنسانية تمر بمرحلة صعبة من تاريخها: الارتفاع الكبير لسكان الأرض من جهة، وميل الإنسان إلى العودة إلى سلوكيات بدائية. ولا يعني هذا أيضا، أنّ المسلمين هم فقط من يحتاج اليوم التكيف مع قيم الإنسانية. فالغرب الذي وضعها يحتاج اليوم إلى جهد كبير من أجل إعادة بعثها في نفوس عدد كبير من أفراده.
ثانيا، إنّ فكرة فقه الأقليات تعني أنّ الإصلاح لا يمس سوى بعض قوانين الفقه التي تتعلق بكيفية تطبيق الأحكام دون المساس بالأحكام ذاتها التي يطلق عليها مصطلح الشريعة. اللّغة الفقهية تميز بين المصطلحين. وبالتالي، فالحديث عن فقه الأقليات غايته، هو أيضا، عرقلة عملية الإصلاح التي تحدث التغير الحقيقي والجذري.
صابر سويسي: تقولين إنّ فكرة إسلام فرنسا أوتوبيا، وتؤكدين وجوب القيام بالإصلاح في كل البلدان الإسلامية…هل هذا يعني أنّ الإسلام واحد وليس متعددا؟.
رزيقة عدناني: لا، لا يعني هذا أن هناك إسلاما واحدا، وإن كان القرآن واحدا، فالإسلام متعدد. هناك إسلام الشيعة مثلا وإسلام السنة وإسلام الصوفية…أما بالنسبة إلى عبارة “إسلام فرنسا”، فلقد كتبت مقالا في هذا الموضوع بينت فيه أنّ الاعتقاد بأنّه يمكن إصلاح الإسلام بفرنسا دون بقية المجتمعات الإسلامية ليس ممكنا، ويدل على عدم معرفة أصحابه لخصوصيات المسلمين وأحوالهم النفسية. لا يمكن أن يصلح الإسلام الموجود في فرنسا، ويكون عصريا متكيفا مع القيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الحديثة، بينما يظل في باقي المجتمعات على حالته أي إسلاما تقليديا، ويتغلب عليه الفهم والنظرة السلفية. هذه الفكرة أوتوبيا، لأنّ المسلمين الفرنسيين لما يتعلق الأمر بأمور دينهم يتوجهون إلى أوطانهم الأصلية وإلى الأمة الإسلامية التي يشعرون أنّهم ينتمون إليها. ثم إنّ أيّة محاولة تقديم للمسلمين في فرنسا إسلاما مختلفا، عما هو عليه في بقية العالم الإسلامي يخدم التيار المحافظ الذي سيتحجج بفكرة أنّ الغرب يريد نهاية الإسلام، وهو ما يولد عند المسلمين في فرنسا رد فعل سلبي، فينطوون على أنفسهم وهذا قد يزيد من الهوة بينهم وبين المجتمع الفرنسي. كل هذا سيسرع بفشل الحركة الإصلاحية، سواء في فرنسا أو في غيرها، خاصة وأنّنا نعرف حساسية المسلمين تجاه الغرب.
صابر سويسي: هل تعتقدين أنّ المسلمين قد تمكّنوا من الاندماج في الثقافة الأوروبية؟.
هناك من الأوروبيين من ينتمون إلى هذا الدين الإسلامي دون أن يعني ذلك أنّ الإسلام قد أصبح جزءا من الثقافة الأوروبية. الإسلام لم يندمج في الثقافة الأوروبية، وإنّما بنى ثقافته إلى جنب الثقافة الأوروبية، في أوروبا اليوم الإسلام والغرب ثقافتان تعيشان جنبا إلى جنب.
صابر سويسي: هل تصالح المسلمون مع قيم الحضارة الأوروبية، وهل كيّفوا معتقداتهم مع قيم الغرب الأوروبي؟.
رزيقة عدناني: مسألة اندماج المسلمين في الثقافة الأوروبية من المشاكل المطروحة اليوم، لو تحقق الاندماج لما طرحت. التعارض بين القيم الحديثة التي يتبناها الغرب وكثير من القيم الإسلامية أمر تعكسه النصوص، ويؤكده الخطاب الديني وهي من الأسباب التي تعرقل عملية اندماج المسلمين في الثقافة الغربية. أضف إليها الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمس المسلمين، بكونهم نازحين، أكثر من غيرهم. لكن مشكلة الاندماج والتكيّف تطرح أكثر عند المسلمين الذين يريدون أن يكون لهم سلوك فردي وجماعي موافق لتعاليم الإسلام.
صابر سويسي: هل فعلا ثمّة تناقض بين الإسلام والعلمانية؟ وهل يمكن أن نفهم الإسلام خارج تاريخه؟ هل يتعارض الإسلام مع حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة مثلا؟
رزيقة عدناني: يجب ألا ننسى أنّ القرآن نزل في القرن السابع الميلادي، حيث التمييز بين الدين والسياسة لم يكن معروفا وحقوق الإنسان لم تخطر على بال الإنسان والمساواة بين المرأة والرجل كان أمرا لا يتصور. ثانيا أنّ القرآن لم يكن منفصلا عن عصره وبيئته، رغم ادعاءات بعضهم؛ وذلك بشهادة من القرآن نفسه الذي يؤكد في سورة إبراهيم الآية 4 إن الله لم يرسل رسولا إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ. ولا تعني كلمة اللسان هنا الألفاظ المستعملة فقط، وإنّما أيضا معانيها وكل ما يمكّن من فهم الخطاب. وذلك ما يؤكده علماء الدين الذين أكدوا أسباب نزول الآيات وكل هذا ليس إلا دليلا على عدم انفصال القرآن عن الواقع، بل وتعامله معه.
حتى رجال الدين الأكثر تشدّدا يضطرون إلى الاعتراف بهذا الأمر، مثلما فعل محمد قطب بالنسبة إلى الآيات التي تتعلق بالعبيد التي قال بوجوب إدراجها في ثقافة القرن السابع الميلادي. لذلك، فإنكار التعارض بين القيم الإسلامية والقيم الإنسانية الحديثة هو إنكار لمبدأ انتماء الإسلام إلى التاريخ، ما دامت هذه القيم لم تكن معروفة في العصر الذي ظهر فيه إنكار التعارض؛ أي بين القيم الإسلامية والقيم الإنسانية الحديثة حجة من حجج المعارضين للإصلاح.
ولكن ما يؤمن به أنّ هناك من الآيات التي يستطيع المسلمون الاعتماد عليها، إذا أرادوا اكتساب القيم الإنسانية الحديثة منها مثلا تلك التي تتحدث عن العدالة والحرية كالآية 105 من سورة 5 المائدة التي تقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” التي يمكن استعمالها للترسيخ مبدأ الحرية الفردية في نفوس المسلمين.
صابر سويسي: قلت في أحد تدخلاتك ب “لو كولاج دي برناردا” بباريس، إنّه لا يوجد فرق بين الإسلام والإسلاموية؛ بم تعلّلين ذلك؟.
رزيقة عدناني: الجواب عن هذا السؤال يتطلب أولا، تعريف مفهوم الإسلاموية أو الإسلامية. حسب المنجد الفرنسي، هذه الكلمة تدل على الإسلام السياسي الذي تبنته بعض الجماعات في القرن العشرين، والتي تستعمل الدين من أجل الوصول إلى الحكم. وبما أنّ الإسلام لم ينفصل عن السياسة، وذلك منذ عهد الرسول إلى يومنا هذا، أكيد أنّه لا يوجد هناك فرق بين الإسلام والإسلامية.