لا شك أنه كلما اعتقد الإنسان أن معرفته إلهية خالصة وأن ما يقوله هو كلام الله عينه، تكون هناك مشكلة لا محالة Entretien avec Razika Adnani accordé à la revue Djelfa.info
وجها لوجه/ على إثر كتابها “تعطيل العقل في الفكر الإسلامي” الجلفة انفو تحاور الكاتبة رزيقة عدناني.
حوار مع الكاتبة والباحثة رزيقة عدناني.
أثار كتاب ” تعطيل العقل في الفكر الإسلامي، يخدم الإسلام ام يضر به” للكاتبة رزيقة عدناني العديد من الأسئلة الفكرية منها ما يندرج ضمن محاولة فهم التحولات المتتالية في فهم الدين بوجهات نظر مختلفة ومنها ما جاء يمجد التقليدية والمحافظة على التراث، ولأن القارئ يهمه الاقتراب من فضاءات الكاتب نحاول في عجالة أن نقف على بعض الأسئلة التي تهم المثقف -بطبيعة الحال- لأنه هو من تشغله هذه الكتابات خاصة ما يدور في فلك الفكر الإسلامي.
الأستاذة رزيقة عدناني باحثة وكاتبة جزائرية متخرجة من جامعة الجزائر معهد الفلسفة. اشتغلت كأستاذة فلسفة، وهي الآن متفرغة للبحث والكتابة. صدر لها في 2001 و 2003 كتابين، ركزت فيهما على منهجية كتابة المقالة الفلسفية مع ملحق لأقطاب الفلسفة ومذاهبها. كما تعمل على نشر مقالات متعددة في جريدة ليبرتي Liberté .
ولأن كتابها الذي صدر حديثا يضع القارئ على طريق البحث الأكاديمي ويقرب له مسافات عديدة في هذا المجال، ولأن كتابها مهم في اعتقادنا -على الأقل- اقتربنا من عوالمها الفكرية بهذه الأسئلة.
————–
1- أعتقد أن كتابك “تعطيل العقل في الفكر الإسلامي، يخدم الإسلام أم يضر به” كتاب يتبع سبيل “تحريك العقل العربي” من ركوده الذي دام طويلا خاصة في مجال الدراسات الإسلامية، كما هو كتاب يضاف إلى المجموعة الفكرية المهمة لباحثين نزعوا شرنقة “الخوف الموروث” مؤسسين بذلك كما قال أحدهم مدرسة “العقل العربي المعاصر”
ومع أن الدخول في طرح مثل هذه الموضوعات هو دخول له مشاقه ، دخلت الأستاذة رزيقة عدناني دخولا حذرا خاصة في المكتبة الفكرية الجزائرية بحدودها الجغرافية على الأقل في رأيي، لأن الحركة الفكرية العربية والجزائرية على الخصوص تعودت الحديث أكثر من الإنتاج ولأن الكتابة تعتبر أكثر احترافية واعترافية.. فهل كان دخولك كما ذكرتُ أم تجدين له رائحة أخرى؟.
ليس المهم أن تكون هذه الأفكار صحيحة أم خاطئة، ولكن المهم أن تضاف إلى معركة الأف وتحدث النقاش والجدال.
– أود قبل أن أجيب عن سؤالك أن ألفت الانتباه إلى عبارة ” العقل العربي” التي تستعمل بشكل كبير في الفكر العربي والإسلامي بشكل عام، والتي أعتبرها ليست صحيحة بالمعنى العلمي لمفهوم العقل الذي أتحدث عنه في الكتاب. إن التفكير هو نشاط نفسي وظيفته توليد الأفكار وبنائها، بينما العقل بمثابة الحارس الذي يمنع الفكر، وهو يقوم بنشاطه، من التناقض، ويتمكن من بناء أفكاره بناء منطقيا متناسقا. إذا كان لكل شخص أفكاره ولكل أمة أفكارها، تكون ميزة التفكير الخصوصية التي تجعله يختلف من شخص إلى آخر ومن أمة إلى أخرى باختلاف المعتقدات والمعارف. بينما تكون العقلانية، التي ينتظم بواستطها هذا التفكير، واحدة. والدليل أن الناس، مهما اختلفت مواقفهم، لما يركزون على الترابط المنطقي والتناسق بين الأفكار يصلون إذا انطلقوا من نفس المقدمات، إلى نفس النتائج. وبالتالي فالعقل ليس الفكر، وإن كان لا يعبر عن نفسه إلا من خلال نشاط فكري.
إن استعمال عبارة” العقل العربي” ،تعني، و كأننا نقول أن للعرب عقل خاص بهم، و بالتالي منهج تفكير خاص بهم. وهناك من يعتقد هذا فعلا، كعبد الستار الراوي الذي عرف “العقل العربي” في كتاب عنوانه “مكانة العقل في الفكر العربي” قائلا إنه ” منهج تفكير العرب”. لو كان للعرب منهج تفكير خاص بهم، لكانت لهم رياضيات خاصة بهم ومنطق خاص بهم. لأن الرياضيات والمنطق أحسن ميدان تتحقق فيهما المعقولية. ولكن الرياضيات واحدة عند جميع الأمم وكذلك المنطق، والعرب لا يخرجون عن هذه القاعدة. لذلك فالعقل عند العرب هو العقل عند كل الأمم. ولكن هذا لا يعني أن العرب ليس لهم الحق في اكتشاف قوانين عقلية جديدة ويساهموا بذلك في تطوير مجال العقلانية. ولكن ذلك لا يعني أنها ستنسب إليهم، بل ستنسب إلى العقل لأنها قوانينه هو. لذلك لا يصح أن نقول “العقل الغربي” وإن كان اكتشاف قوانينه تنسب لفلاسفة الإغريق.
وبالتالي فإن عبارة ” العقل العربي” تدل على التباس بين مفهوم العقل و مفهوم الفكر، واستعمال مصطلح العقل للإشارة إلى الفكر أو استعمال العقل بمفهومه العامي، الذي يعني الحكمة وحسن النظر. لذلك فمن الأصح أن نقول “الفكر العربي” و” الفكر الإسلامي”، لأن للعرب، فعلا، تفكيرهم الخاص بهم وللمسلمين أيضا، مثلما للغرب تفكيرهم الخاص بهم، وكذلك بالنسبة لبقية الأمم، وليس “العقل العربي” أو ” العقل الإسلامي” لأن العقل، الذي هو منهج للفكر، لا وطن له و لا جنسية.ليس “العقل العربي” أو ” العقل الإسلامي” لأن العقل، الذي هو منهج للفكر، لا وطن له و لا جنسية. ما عن كيفية دخولي هذا الميدان فهو دخول عادي ناتج عن رغبة في التعبير عن أفكاري ومشاركة الغير فيها. أعتقد أنها حالة كل من يشرع في الكتابة. ومثلما قلت في مقدمة الكتاب، ليس المهم أن تكون هذه الأفكار صحيحة أم خاطئة، ولكن المهم أن تضاف إلى معركة الأفكار وتحدث النقاش والجدال.
ليس “العقل العربي” أو ” العقل الإسلامي” لأن العقل، الذي هو منهج للفكر، لا وطن له و لا جنسية.
لاحظت أن الكتاب نشر في “المغرب”، هل هذا من قبيل “الصدفة” أم أن الأمر يتطلب دار نشر جزائرية تؤمن بحرية الفكر بمفاهيم واعية، كيف جاءتك فكرة نشره، وهل من صعوبات؟.
لجوئي إلى دار نشر مغربية ليست إلا نتيجة للصعوبات التي لقيتها لنشر الكتاب في الجزائر.
– أكيد أن لجوئي إلى دار نشر مغربية ليست إلا نتيجة للصعوبات التي لقيتها لنشر الكتاب في الجزائر. ربما لأننا في الجزائر ، مثلما قلتم في سؤالكم الأول، لم نتعود على الخوض في مثل هذه المسائل الفكرية، خاصة لما تكون آلة التواصل هي اللغة العربية. وعلى العكس من ذلك، لم أجد أية صعوبة لنشره في المغرب. ربما أيضا لأن جيراننا (المغرب و تونس)، على خلافنا، لديهم تجربة أكثر في هذه المواضيع. وإن كان، في الحقيقة، ما يهم هو ما يحتويه الكتاب ، وهو ما يجب أن يجلب إهتمامنا، وليس أين نشر الكتاب.
3- حين قرأت الفصل الأول من الكتاب “مشكلة الفكر الإسلامي: مشكلة معرفة بين الإلهي والمصدر البشري” وخاصة ما جاء في سؤالك : هل المذهب الذي يرفض الفكر استغنى عن الفكر فعلا؟، وقلت إن “طرح إشكالية المعرفة بين مصدر الوحي ومصدر الفكر البشري اليوم، ليس صحيحا إلا من جانبها النظري الفلسفي. أما من جانبها التطبيقي فهي لا تصح. لأننا لا نستطيع أن نقول أن هناك من المسلمين من لديهم معرفة إلهية خالصة”، هذا يقودني إلى أن أتساءل كما تساءلت الكاتبة الكوبية “ماريا روزا مينوكال” في كتاب لها عن الأندلس وهي تعلم كما أعلم أن الفكر “حياة” أي له أثره في المجتمع، قالت:”أنشأ محمد أيضا أمة تحمل بذور دولة عسكرية وسياسية، ونشر بالأساس فيها القيم الاجتماعية والمدنية والأخلاقية المرتبطة بالتوجهات الروحية التي كان يدعو إليها. غير أن التعاليم لا تشير بوضوح إلى كيفية الحكم، ولا إلى كيفية تدبير شؤون هذه الإمبراطورية. وقد تركت وفاة محمد فراغا محتوما في هذا الشأن. وليس ثمة ما هو أشد أهمية أو أشد حسما في الإسلام من هذه القضية، فقد كانت وما زالت حتى الآن مصدر القلاقل والتقلبات السياسية والسجالات العنيفة: فمن يمكنه في نهاية الأمر، أن يأخذ مكان الرسول الذي كان في الآن نفسه رجل الدولة القوي؟” ومن هنا ظل ذلك الفراغ يتسع مع تطور فجوة الخلاف وقتل مختلف محاولات التفكير في الفكر الإسلامي والتضييق على ما تبقى (فكرا، وفعلا)، فهل كل هذا كان نتاج الرؤية التي قدست بعض المسلمين اعتقادا أن لديهم معرفة إلهية خالصة؟
– لا شك أنه كلما اعتقد الإنسان أن معرفته إلهية خالصة وأن ما يقوله هو كلام الله عينه، تكون هناك مشكلة لا محالة. وهي مشكلة لا تخص عالم السياسة، مثلما بينتم، فحسب، بل تخص كل الميادين الفكرية والحياتية. لأن ذلك يعني أن الإنسان سيقدس نفسه ومعرفته بدلا من تقديس الله ومعرفته فيقفل أبواب النقاش والجدال ويرفض كل نقد وهو ما يؤدي إلى الجمود الفكري والاجتماعي. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالمسلمين، مثلما قد يعتقد البعض، ولكنها توجد في كل الثقافات، ولكن الاختلاف في مقدار انتشارها.
تعود جذور هذه المشكلة في الفكر الإسلامي إلى بداية النشاط الفكري الإسلامي وتخوف بعض المسلمين من تدخل الفكر في ميدان المعرفة ووقوفهم موقفا معاديا منه. وكانت حجتهم أن مصدر المعرفة لا بد أن يكون إلاهيا فقط وأن الفكر لا يمكن أن يكون مصدرا آخر للمعرفة. واستعملوا منهج النقل على أساس أن المعرفة التي يصلون إليها بواسطته هي المعرفة الإلهية بعينها. غير أن الممارسة الواقعية بينت أن الفريق الذي يرفض أي دور للفكر البشري لم يستطع، في الحقيقة، أن يستغني عن الفكر، بل استعمله في كل مراحل عمله التشريعي والديني. أما عن النقل الخالص، فهو لا يكون ممكنا إلا إذا كان الفكر آلة تصوير يصور المعاني تصويرا. لكن الفكر ليس آلة تصوير بل هو عملية بناء حسب مجمل عمليات الفهم والإدراكات الخاصة. أو إذا استعمل المفسر نفس جمل ونفس كلمات النص الأصلي. وفي هذه الحالة لا يمكن أن نسمي عمله تفسيرا ما دام لا يضيف أي شيء للنص الأصلي و لا يوضح معناه، مثلما يقول علي حرب في كتابه” نقد الحقيقة “. لذلك إذا كان ظهور إشكالية الفكر البشري، كمصدر المعرفة، طبيعي بالنسبة للمسلمين الذين ودعوا الرسول ص، و لم يعرفوا معرفة دينية أو تشريعية أخرى غير التي أتى بها الوحي، فإن طرحها اليوم ليست صحيحة بل مزيفة بعد أن أدرك الإنسان أنه لا يستطيع الاستغناء عن فكره في كل معرفة يصل إليها بما فيها تلك الموجودة في النصوص.
إن المعرفة، تفسيرا كانت أم تشريعا، التي يتوصل إليها الإنسان، مهما كانت صحيحة، تبقى معرفة بشرية
شيء جميل أن تكون للإنسان رغبة في حماية المعرفة و الإرادة الإلهيتين، و لكن الأجمل أن لا يتناقض المؤمن في ذلك مع مبدأ أن الله واحد لا يشاركه في صفاته أي أحد. إن الذي يسهر على احترام التناسق وعدم تناقض الفكر هو العقل. إن الذي يؤمن بمبدأ التوحيد، يؤمن في نفس الوقت، طبقا لمبدأ عدم التناقض، أن المعرفة، تفسيرا كانت أم تشريعا، التي يتوصل إليها الإنسان، مهما كانت صحيحة، تبقى معرفة بشرية، و إن كان موضوعها المعرفة الإلهية. لأن قداسة موضوع المعرفة لا يستوجب قداسة الذات البشرية العارفة. أن يبلغ الإنسان المعرفة إلإهية الخالصة، معناه أنه يشارك الله في صفاته وعلمه و كماله، لأن علم الله كامل.
لا بد أن ينظر المؤمن دائما، مهما علا به المقام، إلى معرفته، مهما كان موضوعها و صدقها، علي أساس أنها معرفة بشرية، لا يمكن أن تكون مطابقة للمعرفة الإلهية، من حيث الصدق و القداسة و ذلك من حيث المبدأ.
4- ربما الخوف المتوارث هو الذي أسس لذلك “الفراغ” وربما هذا الفراغ كان دافعا لبروز اتجاهات جديدة حتى في عصرنا، فتصورنا “للسلفية” لن يكون كما هو تصور العصور السابقة، وأكيد تداخلت مفاهيم جديدة على المصطلح مما دفعت به إلى ما يفهم من “التقديس لما هو غير مقدس” ولذلك يعتقد الكثير من الباحثين والمفكرين اليوم أن تخلف المسلمين يكمن في تقديس “أفكار” السلف حتى وإن لم تخدم المجتمع الحالي، أي الوقوف عند فهمهم للدين من منطلقاتهم السوسيولوجية -وحتى فهمهم هو من فهمنا – ويرى البعض أن ذلك يدفع إلى تجميد حركية الفكر .الديني المتطورة، ما رأيك؟
– هناك اختلاف بين الدين الذي يكون ميتافيزيقا فقط وبين الدين الذي يكون ميتافيزيقا وحياة اجتماعية وعملية. أن تظل الميتافيزيقا على حالتها على مر العصور، فهذا لا يسبب أي ضرر أو حرج. ولكن أن تبقى القوانين العملية الاجتماعية على حالها دائما، فهذا أكيد أنه يضر بالطبيعة الحركية الفرد والمجتمع . إن المجتمع جسم حي، وخصوصية أي جسم حي النمو والتطور. ويكفي أن ننظر إلى محيطنا المعيشي وقيمنا وسلوكاتنا لنرى كيف تغيرت. وهو ما يصرح به الآباء والأمهات حين يتحدثون عن أطفالهم . لذلك ما يتعلق بتنظيم المجتمع وسلوك الناس، لا بد أن يتطور حتى لا يضطر الناس أن يكون دينهم كلاما نظريا لا علاقة له بسلوكهم، أو ينسلخوا عن المجتمع ويعيشون على هامشه، أو يتحايلون على الغير وعلى أنفسهم. وهو ما لا يخدم لا الدين ولا الأخلاق ولا المجتمع.
5-من بين أفكار الكتاب المهمة والتي تأتي لتحث على “الدراسة التاريخية النقدية” بمعطياتها “السوسيوأدبية” لعصر نزول الوحي وما بعده هو وصولك إلى أن العرب حين اتصالهم بالثقافة اليونانية واطلعوا على مفاهيم “العقل” (الحديثة عنهم) أدركوا مدلوله العلمي ورأوا فيه دخيلا على ثقافتهم ودينهم نتيجة لاختلاف في تصوّر مدلول هذا العقل فرفضوه؟ ومع تطور الحياة الفكرية تطور هذا “الرفض” وتحول إلى فلسفة مهمة في حياة “تفكير المسلم اليوم” وفي ظل تشعب “الفرق” والجماعات، فهل يمكن القول-انطلاقا من مدلول عنوان الكتاب- بأن “العقل” في مستوياته العربية المعرفية الجديدة بدأ يكتشف هذه الفلسفة ويحاول عزلها حتى يتمكن من استئصالها؟ وإلى أي مدى كان ذلك؟.
اعتبر العقل في الفكر الإسلامي منهجا للفلسفة. ولكن العقل منهج للفكر و ليس منهجا للفلسفة.
– إن الموقف السلبي للمفكرين المسلمين الأوائل من العقل لا يدل على اختلاف في تصورهم لمدلول العقل عما هو عليه عند اليونانيين. بل موقفهم السلبي منه يدل على أنهم أدركوا معناه العلمي الإبستمولوجي بصورة جيدة وفهموا صرامته وحياديته التي يفرضها على الفكر، والتي قد تجعله يصل إلى نتائج تتناقض مع مواقفهم. لو لم يدرك المفكرون المسلمون، ورجال الدين أيضا، العقل بمدلوله العلمي لما وقفوا منه موقف معاديا. لأن العقل الذي يشكل مشكلة، مع كل المعتقدات الدينية والمنظومات الاجتماعية، هو العقل بمعناه العلمي الإبستمولوجي، وليس العقل بمعناه العامي الذي يعني الحكمة والاستقامة على طريق الصواب. إذا كانت الحكمة والاستقامة على طريق الصواب هو ما يؤمر به الدين والعادات والتقاليد، كان العقل بهذا أحسن وسيلة يتحقق بها الدين. لأنه في هذه الحالة، كلما كان الفرد عاقلا كلما كان متدينا وضابطا لسلوكه . لذلك فعبارة” العقل العربي” أو ” العقل الإسلامي” تدل على تراجع في الوعي بمفهوم العقل العلمي في الفكر العربي الإسلامي وليس على غياب الوعي له. أو إن شئت، فهي تدل على وجود وعي بمفهومه في الفكر الإسلامي الكلاسيكي وغياب له في الفكر الإسلامي الحديث.
اعتبر العقل في الفكر الإسلامي منهجا للفلسفة. ولكن العقل منهج للفكر و ليس منهجا للفلسفة. وظيفة العقل تنظيم عمل الفكر و مراقبته كي لا يقع في التناقض. إذا كان لكل علم منهجه، فإن الفكر لا يستطيع أن يدرس أي علم دراسة صحيحة إلا إذا كان هو نفسه منظما. إن الفلسفة، التي لا تقوم على التجربة المخبرية، لغتها الوحيدة، التي تتحدث بها وتمكنها من تحليل أفكارها والبرهنة عليها، هي لغة العقل. لذلك فغياب العقل يعني غياب الفلسفة.
وقف المسلمون، منذ أكثر من ثمانية قرون، من الفلسفة ومن منهجها العقلي موقفا معاديا وتوارثته الأجيال المتتالية. هذه النظرة السلبية للعقل هي التي يحاول، ما يسمى اليوم ب”الإتجاه العقلي”، في الفكر العربي والإسلامي، القضاء عليها حتى يسترجع العقل مكانته في تفكير المسلمين. ولكن المرافعات لصالح العقل تنتهي أغلبها بعبارات تدعوا إلى التسلح بالحذر منه وتحدد مجالات استعماله. ويكون أصحابه بهذا مثل الشخص الذي يمدح الأخلاق الحميدة لشخص آخر ثم في النهاية، ينصح من يقبل على مصاحبته بالحيطة والحذر. إلى أي مدى تعتقد أن تكون ثقته، هو نفسه، بهذا الشخص؟ هل تظن أن مرافعته تلك ستجدي كثيرا؟ ونفس الأمر بالنسبة لأكثر المدافعين عن العقل، الذين يبدوا أنهم، لم يتخلصوا تماما من نظرتهم السلبية له. مما يجعل الاتجاه العقلي في الفكر العربي اليوم بعيدا عن تحقيق مطلبه.
6- حاولنا فقط من خلال هذا اللقاء تسليط الضوء على هذا الكتاب النوعي، هل من أعمال جديدة لك ستجد سبيلها الى النشر؟.
– أنا فعلا بصدد انهاء كتاب جديد بالغة الفرنسية، وهو عبارة عن تفكير حول الجزائر يتناول عدة مشاكل وإشكالات منها مشكلة التأريخ ولماذا تهتم الأمم بتاريخها ومدى اهتمامنا نحن بتاريخنا، ليس تاريخ الثورة فحسب بل التاريخ بكل فتراته المختلفة والمتعاقبة. منها أيضا موضوع الثورة وإشكالية مشروعية العنف وموضوع الدين والأصالة والحداثة إلى غير ذلك.
اعتبارك باحثة أكاديمية ، كيف ترين عمل الباحث في ظل التراكمات المعرفية المتجددة وهل هناك أسماء فكرية تبحث في هذا المجال داخل الجزائر؟.
ولكننا في الجزائر لدينا عادة قديمة جدا تجعلنا نمحي من قاموس تاريخنا الفكري اسماء مفكرينا لأننا لم نتفق معأفكارهم أو مواقفهم أو معتقداتهم أو لغتهم
إن ما يبحث عنه الباحث هو الحقيقة. في هذه الحالة يكون عمله أولا مسؤوليته علمية وأخلاقية تجعله يلتزم بالتدقيق الكبيرمن أجل التأكد من المعلومات والمعارف التي يقدمها، وتجعله يبتعد عن التسرع في تقديم النتائج. وبقدر شعوره الباحث بهذه المسؤولية الأخلاقية والتزامه لها بقدر ما تنطبق عليه صفة الباحث. ولا شك أن مسؤوليته، في ظل تراكم المعلومات التي يعيشها إنسان الأنترنات، تزداد شدة حتى يميز بين ما هو مجرد معلومة وما هو معرفة علمية.
أما عن الأسماء الجزائرية التي تبحث في ميدان الفكر والفلسفة والفكر الإسلامي بشكل خاص، يكفي أن ننظر في رفوف مكتباتنا، لندرك فقر انتاجنا في هذه الميادين رغم أهميتها. ولكن ذلك ليس حجة لكي ننسى اسم محمد أركون ومالك شبال وصهيب بن الشيخ مثلا. وأنت تعلم أننا لا نستطيع الحديث عن الفكر الإسلامي الحديث اليوم دون أن نذكر اسم محمد أركون الذي اكتسب، بفضل أعماله، شهرة عاليمة. كان محمد أركون يعيش في فرنسا فعلا، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ابن الجزائر،حيث عاش حياته الأولى، وممثلا للأنتلجانسا الجزائرية. وهذا يكفي لبعث الشعور بالافتخار في نفسية كل جزائري وجزائرية. ولكننا في الجزائر لدينا عادة قديمة جدا تجعلنا نمحي من قاموس تاريخنا الفكري اسماء مفكرينا لأننا لم نتفق مع أفكارهم أو مواقفهم أو معتقداتهم أو لغتهم. وهو ما يحدث كلما تغلبت المصلحة الخاصة علي مصلحة العامة وحجبت النظرة الضيقة الأفق الواسع للفكر. لكن قلة الإنتاج في هذه الميادين لا يعني أن الناس لا تراودهم الأسئلة إزاءها أو ليس لهم فضول للمعرفة. لأن السعي إلى الحقيقة طبيعة في الإنسان. ولكن الكثير من الناس يفضلون طرح أسئلتهم في الخفاء بينهم وبين أنفسهم.
أخيرا، أجد أن القارئ لا بد له أن يقرأ مثل هذه الكتب التي تقرب له مجال معركة الأفكار كما ذكرت، ولكن حاولنا هنا أن نشير إلى أهمية مثل هذه الكتب للدراسة والتمحيص من قبل المتخصصين والباحثين والقراء القادرين على التوغل بنفس طويل في مثل هذه الموضوعات التي تهم الفكر الإسلامي لا محالة. هل من كلمة أخيرة؟.